فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالُواْ يا شعيب أَصَلَوَاتُكَ}
وقرئ: {أَصَلاَتُكَ} من غير جمع.
{تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} {أن} في موضع نصب؛ قال الكسائي: موضعها خفض على إضمار الباء.
وروي أن شعيبًا عليه السلام كان كثير الصلاة، مواظبًا على العبادة فرضها ونفلها ويقول: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ فلما أمرهم ونهاهم عيّروه بما رأوه يستمرّ عليه من كثرة الصلاة، واستهزؤوا به فقالوا ما أخبر الله عنهم.
وقيل: إن الصلاة هنا بمعنى القراءة؛ قاله سفيان عن الأعمش، أي قراءتك تأمرك؛ ودلّ بهذا على أنهم كانوا كفارًا.
وقال الحسن: لم يبعث الله نبيًّا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة.
{أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} زعم الفراء أن التقدير: أو تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء.
وقرأ السُّلَميّ والضّحاك بن قيس {أو أن تفعل في أموالِنا ما تشاء} بالتاء في الفعلين، والمعنى: ما تشاء أنت يا شعيب.
وقال النحاس: {أو أن} على هذه القراءة معطوفة على {أن} الأولى.
ورُوي عن زيد بن أسلم أنه قال: كان مما نهاهم عنه حَذْف الدراهم.
وقيل: معنى.
{أَوْ أَنْ نَفْعَل في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} إذا تراضينا فيما بيننا بالبخس فَلِم تمنعنا منه؟
{إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} يعنون عند نفسك بزعمك؛ ومثله في صفة أبي جهل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] أي عند نفسك بزعمك.
وقيل: قالوه على وجه الاستهزاء والسخرية، قاله قتادة.
ومنه قولهم للحبشي: أبو البيضاء، وللأبيض أبو الْجَون؛ ومنه قول خزنة جهنم لأبي جهل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}.
وقال سفيان بن عُيَينة: العرب تصف الشيء بضدّه للتطيّر والتفاؤل، كما قيل لِلَّدِيغ سَلِيم، وللفلاة مَفازة.
وقيل: هو تعريض أرادوا به السبّ؛ وأحسن من هذا كله، ويدلّ ما قبله على صحته، أي إنك أنت الحليم الرشيد حقًا، فكيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا ويدلّ عليه.
{أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} أنكروا لما رأوا من كثرة صلاته وعبادته، وأنه حليم رشيد بأن يكون يأمرهم بترك ما كان يعبد آباؤهم، وبعده أيضًا ما يدلّ عليه.
{قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} أي أفلا أنهاكم عن الضلال؟ا وهذا كله يدلّ على أنهم قالوه على وجه الحقيقة، وأنه اعتقادهم فيه.
ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال لهم: «يا إخوة القردة» فقالوا: يا محمد ما علمناك جهولا!.
مسألة:
قال أهل التفسير: كان مما ينهاهم عنه، وعُذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم؛ كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القُراضة، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدًّا، وعلى المقروضة وزنا، وكانوا يبخسون في الوزن.
وقال ابن وهب قال مالك: كانوا يكسرون الدنانير والدراهم، وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدّمين كسعيد بن المسيّب، وزيد بن أسلم وغيرهما؛ وكسرهما ذنب عظيم.
وفي كتاب أبي داود عن علقمة بن عبد الله عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سَكَّة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس؛ فإنها إذا كانت صحاحًا قام معناها، وظهرت فائدتها، وإذا كسرت صارت سِلعة، وبطلت منها الفائدة؛ فأضر ذلك بالناس؛ ولذلك حرم.
وقد قيل في تأويل قوله تعالى: {وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] أنهم كانوا يكسرون الدراهم؛ قاله زيد بن أسلم.
قال أبو عمر بن عبد البر: زعموا أنه لم يكن بالمدينة أعلم بتأويل القرآن من زيد بن أسلم بعد محمد بن كعب القُرَظيّ.
مسألة:
قال أصْبغ قال عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جُنادة مولى زيد بن الحارث العُتَقيّ: من كسرها لم تقبل شهادته، وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر، وليس هذا بموضع عذر؛ قال ابن العربي: أما قوله: لم تقبل شهادته فلأنه أتى كبِيرةً، والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر؛ وأما قوله: لا يقبل عذره بالجهالة في هذا فلأنه أمرٌ بيّنٌ لا يخفى على أحد، وإنما يقبل العذر إذا ظهر الصدق فيه، أو خفِي وجه الصدق فيه، وكان الله أعلم به من العبد كما قال مالك.
مسألة:
إذا كان هذا معصية وفسادًا تردّ به الشهادة فإنه يعاقب من فعل ذلك.
ومرّ ابن المسيّب برجل قد جُلد فقال: ما هذا؟ قال رجل: يقطع الدنانير والدراهم؛ قال ابن المسيّب: هذا من الفساد في الأرض؛ ولم ينكر جلده؛ ونحوه عن سفيان.
وقال أبو عبد الرحمن النَّجِيبي: كنت قاعدًا عند عمر بن عبد العزيز وهو إذ ذاك أمير المدينة فأتى برجل (يقطع الدراهم) وقد شُهِد عليه فضربه وحَلَقه، وأمر فطِيف به، وأمره أن يقول: هذا جزاء من يقطع الدراهم؛ ثم أمر أن يُرَدّ إليه؛ فقال: إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أني لم أكن تقدّمت في ذلك قبل اليوم، وقد تقدّمت في ذلك فمن شاء فليقطع.
قال القاضي أبو بكر بن العربيّ: أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه، وأما حلقه فقد فعله عمر؛ وقد كنت أيام الحكم (بين الناس) أضرب وأحلق، وإنما كنت أفعل ذلك بمن يرى شعره عونًا له على المعصية، وطريقًا إلى التجمل به في الفساد، وهذا هو الواجب في كل طريق للمعصية، أن يقطع إذا كان غير مؤثر في البدن، وأما قطع يده فإنما أخذ ذلك عمر من فصل السرقة؛ وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها، فإن الكسر إفساد الوصف، والقرض تنقيص للقدر، فهو أخْذُ مالٍ على جهة الاختفاء؛ فإن قيل: أليس الحِرز أصلًا في القطع؟ قلنا: يحتمل أن يكون عمرُ يرى أن تهيئها للفصل بين الخلق دينارًا أو درهمًا حِرز لها، وحِرز كل شيء على قدر حاله؛ وقد أنفذ ذلك ابن الزبير، وقطع يد رجل في قطع الدنانير والدراهم.
وقد قال علماؤنا المالكية: إن الدنانير والدراهم خواتيم الله عليها اسمه؛ ولو قطع على قول أهل التأويل من كسر خاتمًا لله كان أهلًا لذلك، أو من كسر خاتم سلطان عليه اسمه أدّب، وخاتم الله تقضى به الحوائج فلا يستويان في العقوبة.
قال ابن العربيّ: وأرى أن يقطع في قرضها دون كسرها، وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم، إلا أني كنت محفوفًا بالجهال، فلم أجبن بسبب المقال للحسدة الضلال فمن قدر عليه يومًا من أهل الحق فليفعله احتسابًا لله تعالى.
قوله تعالى: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} تقدم.
{وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} أي واسعًا حلالًا، وكان شعيب عليه السلام كثير المال، قاله ابن عباس وغيره.
وقيل: أراد به الهدى والتوفيق، والعلم والمعرفة، وفي الكلام حذف، وهو ما ذكرناه، أي أفلا أنهاكم عن الضلالا وقيل: المعنى {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} أتبع الضلال؟ وقيل: المعنى {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} أتأمرونني بالعصيان في البخس والتطفيف، وقد أغناني الله (عنه).
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ} في موضع نصب ب {أُريدُ}.
{إلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي ليس أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به.
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت} أي ما أريد إلا فعل الصلاح؛ أي أن تصلحوا دنياكم بالعدل، وآخرتكم بالعبادة، وقال: {مَا اسْتَطَعْتُ} لأن الاستطاعة من شروط الفعل دون الإرادة.
و{ما} مصدرية، أي إن أريد إلا الإِصلاح جهدي واستطاعتي.
{وَمَا توفيقي} أي رشدي، والتوفيق الرشد.
{إِلاَّ بالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي اعتمدت.
{وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي أرجع فيما ينزل بي من جميع النوائب.
وقيل: إليه أرجع في الآخرة.
وقيل: إن الإنابة الدعاء، ومعناه وله أدعو. اهـ.

.قال الخازن:

{قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} يعني من الأصنام: {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} يعني من الزيادة والنقصان، قال ابن عباس: كان شعيب كثير الصلاة فلذلك قالوا هذا وقيل إنهم كانوا يمرون ب فيرونه يصلي فيستهزئون به ويقولون هذه المقالة، وقال الأعمش: أقراءتك لأن الصلاة تطلق على القراءة والدعاء وقيل المراد بالصلاة هنا الدين يعني أدينك يأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نفعل في أموالنا ما نشاء وذلك أنهم كانوا ينقصون الدراهم والدنانير فكان شعيب عليه السلام ينهاهم عن ذلك ويخبرهم أنه محرم عليهم وإنما ذكر الصلاة لأنها من أعظم شعائر الدين: {إنك لأنت الحليم الرشيد} قال ابن عباس: أرادوا السفيه الغاوي لأن العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون للديغ سليم وللفلاة المهكلة مفازة، وقيل: هو على حقيقته وإنما قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية، وقيل: معناه إنك لأنت الحليم الرشيد في زعمك وقيل هو على بابه من الصحة ومعناه إنك يا شعيب فينا حليم رشيد فلا يحمل بك شق عصا قومك ومخالفتهم في دينهم: {قال} يعني قال لهم شعيب: {يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} يعني: على بصيرة وهداية وبيان: {ورزقني منه رزقًا حسنًا} يعني حلالًا قيل كان شعيب كثير المال الحلال والنعمة وقيل الرزق الحسن ما أتاه الله من العلم والهداية والنبوة والمعرفة وجواب إن الشرطية محذوف تقديره أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني المال الحلال والهداية والمعرفة والنبوة فهل يسعني مع هذه النعمة أن أخون في وحيه أو أن أخالف أمره أو أتبع الضلال أو أبخس الناس أشياءهم، وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم ذلك أنهم قالوا له إنك لأنت الحليم الرشيد والمعنى فكيف يليق بالحليم الرشيد أن يخالف أمر ربه وله عليه نعم كثيرة وقوله: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} قال صاحب الكشاف يقول خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده ويقال الرجل صادرًا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول خالفني إلى الماء يريد أنه قد ذهب إليه واردًا وأنا ذاهب عنه صدارًا ومنه قوله: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} أي أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم.
قال الإمام فخر الدين الرازي: وتحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا فيها بأنه حليم رشيد وذلك يدل على كمال العقل وكمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح فكأنه عليه السلام قال لهم لما اعترفتم بكمال عقلي فاعملوا أن الذي اخترته لنفسي هو أصوب الطرق وأصلحها وهو الدعوة إلى توحيد الله وترك البخس والنقصان فأنا مواظب عليها غير تارك لها فاعلموا أن هذه الطريقة خير الطرق وأشرفها لا ما أنتم عليه وقال الزجاج: معناه إني لست أنهاكم عن شيء وأدخل فيه إنما أختار لكم لنفسي وقال ابن الأنباري بين أن الذي يدعوهم إليه من اتباع طاعة الله وترك البخس والتطفيف هو ما يرتضيه لنفسه وهو لا ينطوي إلا عليه فكان هذا محض النصيحة لهم: {إن أريد} يعني ما أريد فيما آمركم به وإنهاكم عنه: {إلا الإصلاح} يعني فيما بيني وبينكم: {ما استطعت} يعني ما استطعت إلا الإصلاح وهو الإبلاغ والإنذار فقط ولا أستطيع إجباركم على الطاعة لأن ذلك إلى الله فإنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء: {وما توفيقي إلا بالله} التوفيق تسهيل سبيل الخير والطاعة على العبد ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى فلذلك قال تعالى: {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت} يعني على الله اعتمدت في جميع أموري: {وإليه أنيب} يعني وإليه أرجع فيما ينزل من النوائب وقيل إليه أرجع في معادي روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر شعيبًا قال: «ذلك خطيب الأنبياء» لحسن مراجعته قومه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا}
لما أمرهم شعيب بعبادة الله وترك عبادة أوثانهم، وبإيفاء المكيال والميزان، ردّوا عليه على سبيل الاستهزاء والهزء بقولهم: أصلاتك، وكان كثير الصلاة، وكان إذا صلى تغامزوا وتضاحكوا أن نترك ما يعبد آباؤنا مقابل لقوله: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء مقابل لقوله: {ولا تنقصوا المكيال والميزان} وكون الصلاة آمرة هو على وجه المجاز، كما كانت ناهية في قوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} أو يقال: إنها تأمر بالجميل والمعروف أي: تدعو إليه وتبعث عليه.
إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز، وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته.
والمعنى: فأمرك بتكليفنا أن نترك، فحذف المضاف لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره.
والظاهر أنه أريد بالصلاة الصلاة المعهودة في تلك الشريعة.
وقال الحسن: لم يبعث الله نبيًا إلى فرض عليه الصلاة والزكاة.
وقيل: أريد قراءتك.
وقيل: مساجدك.
وقيل: دعواتك.
وقرأ ابن وثاب والأخوان وحفص: أصلاتك على التوحيد.
وقرأ الجمهور: أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء بالنون فيهما.
وقرأ الضحاك بن قيس، وابن أبي عبلة، وزيد بن علي: بالتاء فيهما على الخطاب، ورويت عن أبي عبد الرحمن.
وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة: نفعل بالنون، ما نشاء بالتاء على الخطاب، ورويت عن ابن عباس.
فمن قرأ بالنون فيهما فقوله: أو أن نفعل معطوف على قوله: ما يعبد أي: أن نترك ما يعبد آباؤنا وفعلنا في أموالنا ما نشاء.
ومن قرأ بالتاء فيهما أو بالنون فيهما فمعطوف على أن نترك أي: تأمرك بترك ما يعبد آباؤنا، وفعلك في أموالنا ما تشاء، أو وفعلنا في أموالنا ما تشاء.
وأو للتنويع أي: تأمرك مرة بهذا، ومرة بهذا.
وقيل: بمعنى الواو.
والظاهر أنّ الذي كانوا يفعلونه في أموالهم هو بخس الكيل والوزن المقدّم ذكره.
وقال محمد بن كعب: قرضهم الدينار والدرهم، وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس، وعن ابن المسيب: قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض.
وقيل: تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس.
ومن قرأ بالتاء فيهما أو في نشاء، والظاهر أنه إيفاء المكيال والميزان.
وقال سفيان الثوري: كان يأمرهم بالزكاة.
وقوله: إنك لأنت الحليم الرشيد ظاهره أنه إخبار منهم عنه بهذين الوصفين الجميلين، فيحتمل أن يريدوا بذلك الحقيقة أي: أنك للمتصف بهذين الوصفين، فكيف وقعت في هذا الأمر من مخالفتك دين آبائنا وما كانوا عليه، ومثلك من يمنعه حلمه ورشده عن ذلك.
أو يحتمل أن يريدوا بذلك إنك لأنت الحليم الرشيد بزعمك إذ تأمرنا بما تأمر به.
أو يحتمل أن قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والتهكم، قاله قتادة.
والمراد: نسبته إلى الطيش والعي كما تقول للشحيح: لو رآك حاتم لسجد لك، وقالوا للحبشي: أبو البيضاء.
قال: يا قوم أرأيتم إن كنت هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن، واستدعاء رقيق، ولذلك قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك خطيب الأنبياء». وهذا النوع يسمى استدراج المخاطب عند أرباب علم البيان، وهو نوع لطيف غريب المغزى يتوصل به إلى بلوغ الغرض، وقد ورد منه في قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه، وفي قصة نوح وهود وصالح، وفي قصة مؤمن آل فرعون مع قومه.
قال الزمخشري: (فإن قلت): أين جواب أرأيتم، وما له لم يثبت كما ثبت في قصة نوح وصالح؟ (قلت): جوابه محذوف، وإنما لم يثبت لأنّ إثباته في الصفتين دل على مكانه، ومعنى الكلام يناوي عليه، والمعنى أخبروني إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي، وكنت نبيًا على الحقيقة، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك انتهى.
وتسمية هذا جوابًا لأرأيتم ليس بالمصطلح، بل هذه الجملة التي قدرها هي في موضع المفعول الثاني لأرأيتم، لأنّ أرأيتم إذا ضمنت معنى أخبرني تعدت إلى مفعولين، والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية تنعقد منها ومن المفعول الأول في الأصل جملة ابتدائية كقول العرب: أرأيتك زيدًا ما صنع.
وقال الحوفي: وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه، والتقدير: فاعدل عن ما أنا عليه من عبادته على هذه الحال.
وقال ابن عطية: وجواب الشرط الذي في قوله: إن كنت على بينة من ربي محذوف تقديره: أضل كما ضللتم، أو أترك تبليغ الرسالة ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة انتهى.
وليس قوله: أضل جوابًا للشرط، لأنه إن كان مثبتًا فلا يمكن أن يكون جوابًا لأنه لا يترتب على الشرط وإن كان استفهامًا حذف منه الهمزة، فهو في موضع المفعول الثاني لأرأيتم، وجواب الشرط محذوف تدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها.